كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الْقَاضِي: وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ فِيهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَرِثُهُ بِالْوَلَاءِ؛ وَهَذِهِ فُصُولُ الْكَلَامِ وَأُصُولُهُ مُرْتَبِطَةٌ بِظَاهِرِ القرآن؛ وَالسُّنَّةُ الْمُبَيِّنَةُ لَهُ وَالتَّفْرِيعُ وَالتَّتْمِيمُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أَمَةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ تعالى مِنْ الْهَوَانِ بِحَيْثُ كَانَ يَجْعَلُ بُيُوتَ الْكُفَّارِ وَدُرَجِهَا وَأَبْوَابِهَا ذَهَبًا وَفِضَّةً، لَوْلَا غَلَبَةُ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَى الْقُلُوبِ، فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْكُفْرِ.
وَالْقَدَرُ الَّذِي جُعِلَ عِنْدَ الْكُفَّارِ مِنْ الدُّنْيَا وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَغْنِيَاءِ إنَّمَا هُوَ فِتْنَةٌ لِقولهِ تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّك بَصِيرًا}.
المسألة الثَّانِيَةُ:
فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّقْفَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْتَ عِبَارَةٌ عَنْ قَاعَةٍ وَجِدَارٍ وَسَقْفٍ وَبَابٍ، فَمَنْ لَهُ الْبَيْتُ فَلَهُ أَرْكَانُهُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعُلُوَّ لَهُ إلَى السَّمَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي السُّفْلِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قال: هُوَ لَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قال: لَيْسَ لَهُ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ شَيْءٌ.
وَفِي مَذْهَبِنَا الْقولانِ.
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ حديث الْإِسْرَائِيلِيِّ الصَّحِيحُ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا فَبَنَاهَا فَوَجَدَ فِيهَا جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ، فَجَاءَ بِهَا إلَى الْبَائِعِ، فَقال: إنَّمَا اشْتَرَيْت الدَّارَ دُونَ الْجَرَّةِ.
وَقال الْبَائِعُ: إنَّمَا بِعْت الدَّارَ بِمَا فِيهَا.
وَكِلَاهُمَا تَدَافَعَا فَقَضَى بَيْنَهُمْ أَنْ يُزَوِّجَ أَحَدُهُمَا وَلَدَهُ مِنْ بِنْتِ الْآخَرِ، وَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعُلُوَّ وَالسُّفْلَ لَهُ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ بِالْبَيْعِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا أَحَدَ الْمَوْضِعَيْنِ فَلَهُ مِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَبَاقِيهِ لِلْمُبْتَاعِ مِنْهُ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الذِّكْرِ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: الشَّرَفُ.
الثَّانِي: الذِّكْرَى بِالْعَهْدِ الْمَأْخُوذِ فِي الدِّينِ.
الثَّالِثُ: قال مَالِكٌ: هُوَ قول الرَّجُلِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ.
وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ الشَّرَفُ وَالْفَضْلُ فَإِنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةً إنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَا شَرَفَ فِيهَا.
قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَاخُرَهَا بِالْأَحْسَابِ، وَالنَّاسُ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ أَوْ كَافِرٌ شَقِيٌّ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ».
وَقِيلَ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك} يَعْنِي الْخِلَافَةَ فَإِنَّهَا فِي قُرَيْشٍ لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِمْ.
قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ».
وَقال مَالِكٌ: هُوَ قول الرَّجُلِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ أَجِدْ فِي الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ إلَّا بِبَغْدَادَ، فَإِنَّ بَنِي التَّمِيمِيِّ بِهَا يَقولونَ: حَدَّثَنِي أَبِي قال: حَدَّثَنِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِذَلِكَ شَرُفَتْ أَقْدَارُهُمْ، وَعَظَّمَ النَّاسُ شَأْنَهُمْ وَتَهَمَّمَتْ الْخِلَافَةُ بِهِمْ.
وَرَأَيْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ابْنَيْ أَبِي مُحَمَّدٍ رِزْقَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنَ أَبِي الْفَرَحِ بْنَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْجَرْدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَكَيْنَة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ وَكَانَا يَقولانِ: سَمِعْنَا أَبَانَا رِزْقَ اللَّهِ يَقول: سَمِعْت أَبِي يَقول: سَمِعْت أَبِي يَقول: سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقول، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَنَّانِ الْمَنَّانِ، الْحَنَّانُ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ.
وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ، وَالْقَائِلُ سَمِعْت عَلِيًّا أَكْيَنَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ جَدُّهُمْ الْأَعْلَى.
وَالْأَقْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقولهِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِك} يَعْنِي القرآن، فَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْكَلَامُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
الْجَنَّةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْحَرِيرِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لُبْسًا وَأَكْلًا وَشُرْبًا وَانْتِفَاعًا، وَقَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْخَلْقِ إجْمَاعًا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَحْكَامِ، وَتَفْصِيلٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَأَمَّا الْحَرِيرُ وَهِيَ:
المسألة الثَّانِيَةُ:
فَقَدْ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ».
قال الرَّاوِي: وَإِنْ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الرَّاوِي.
وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ هَذَا الْحديث فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ فِي شَرْحِ الْحديث بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَأَمْثَلُهَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَمْ يَتُبْ، كَمَا قال: {مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ}، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي الْحَرِيرِ أَيْضًا بِنَصِّهِ.
الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يُقْضَى بِنَصِّهِ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَآخِرُ الْأَمْرِ إلَى حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَجَمِيلِ الْمَآلِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْمَرَضِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا الْعَلَمَ.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
التَّاسِعُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لُبْسُهُ دُونَ فَرْشِهِ؛
قالهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ.
فَأَمَّا كَوْنُهُ مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِقول رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحُلَّةِ السِّيَرَاءِ: {إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ}، وَشَبَهُهُ.
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ فَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْغَزْوِ بِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ؛ وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ فِيهِمَا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ لِبَاسَ الْحَرِيرِ مِنْ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ تعالى إلَّا فِي الْحَرْبِ، فَرُخِّصَ فِيهِ مِنْ الْإِرْهَابِ عَلَى الْعَدُوِّ.
وَهَذَا تَعْلِيلُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الشَّرِيعَةَ، فَظَنَّ أَنَّ النَّصْرَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ عَلَى قَوْمٍ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ إلَّا الْعَلَابِيَّ.
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ فَلَمَّا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ {النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي السَّفَرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا}.
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهُ يَحْرُمُ إلَّا فِي الْمَرَضِ فَلِأَجْلِ إبَاحَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُمَا اسْتِعْمَالَهُ عِنْدَ الْحَكَّةِ.
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ فَلِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ أَنَسٍ {إنَّهُ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا}، فَذِكْرُ لَفْظِ الْغَزْوِ فِي الْعِلَّةِ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ وَهَا هُنَا كَمَا سَبَقَ.
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ رَأَى الْحديث الصَّحِيحَ يُبِيحُهُ لِلْحَكَّةِ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ {لِأَجْلِ الْقَمْلِ}، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أَبَاحَهُ لِلْحَكَّةِ وَلَا لِلْقَمْلِ، كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ، فَإِنَّ التَّدَاوِي بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ ثَبَتَ يَقِينًا، وَالرُّخْصَةَ قَدْ وَرَدَتْ حَقًّا، وَلِلْبَارِئِ سبحانه وَتعالى أَنْ يَضَعَ وَظَائِفَ التَّحْرِيمِ كَيْفَ شَاءَ مِنْ إطْلَاقٍ وَاسْتِثْنَاءٍ؛ وَإِنَّمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ لَهُمَا لِأَجْلِ الْقَمْلِ وَالْحَكَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ خَمَائِصُ غَلِيظَةٌ لَا يَحْتَمِلُهَا الْبَدَنُ، فَنَقَلَهُمْ إلَى الْحَرِيرِ، لِعَدَمِ دَقِيقِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، وَإِذَا وَجَدَ صَاحِبُ الْجَرَبِ وَالْقَمْلِ دَقِيقَ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ لِينَ الْحَرِيرِ.
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا الْعَلَمَ، فَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ إبَاحَةِ الْعَلَمِ، وَتَقْدِيرُهُ بِأُصْبُعَيْنِ.
وَفِي رِوَايَةٍ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ؛ وَالْيَقِينُ ثَلَاثُ أَصَابِعَ، وَهُوَ الَّذِي رَآهُ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ قوليْهِ، وَالْأَرْبَعُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُكَفُّ الثَّوْبُ بِالْحَرِيرِ كَمَا يَجُوزُ إدْخَالُ الْعَلَمِ فِيهِ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَهُ فَرْوَةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالدِّيبَاجِ}.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ قال: أَخْرَجَتْ إلَيَّ أَسْمَاءَ طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً، لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ، وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ بِالدِّيبَاجِ، فَقالتْ: هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ تَلْبَسُهَا حَتَّى قُبِضَتْ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُهَا، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى لِيُسْتَشْفَى بِهَا.
وَهُوَ حديث صَحِيحٌ، وَأَصْلٌ صَرِيحٌ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى النِّسَاءِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَطَبَ فَقال: أَلَا لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ؛ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقول: سَمِعْت رَسُولَ صلى الله عليه وسلم اللَّهِ يَقول: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ».
وَهَذَا ظَنٌّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ يَدْفَعُهُ يَقِينُ الْحديث الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قال: أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةٌ سِيَرَاءُ، فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ فَلَبِسْتهَا، فَعَرَفْت الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، وَقال: إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا، إنَّمَا بَعَثْتهَا إلَيْك لِتَشُقَّهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ.
وَفِي رِوَايَةٍ «شَقَّقَهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ»، إحْدَاهُنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ عَلِيَّ، وَالثَّانِيَةُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنُ هَاشِمٍ زَوْجُ أَبِي طَالِبٍ أُمُّ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٌ وَطَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ أَسْلَمَتْ، وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وُلِدَتْ لِهَاشِمِيٍّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْرِهِمَا.
وَأَمَّا مَنْ قال: إنَّمَا حُرِّمَ لُبْسُهُ لَا فَرْشُهُ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ فَهِيَ نَزْغَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ لَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ اللِّبَاسُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْفَرْشُ وَالْبَسْطُ لَيْسَ لُغَةً، وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ وَذَكَرَ الْحديث قال فِيهِ: فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ.
وَهَذَا نَصٌّ.
المسألة الثَّالثَة:
الْحَرِيرُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَحَلَالٌ لِلنِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحديث الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ: «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا»، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَّخِذَ ثِيَابَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِيهَا، فَإِذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال لَهُ حِينَ تَزَوَّجَ: «اتَّخَذْت أَنْمَاطًا؟» قُلْت: وَأَنَّى لَنَا الْأَنْمَاطُ؟ قال: «أَمَا إنَّهَا سَتَكُونُ».
وَلَيْسَ يَلْزَمُ الرَّجُلَ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْ ثِيَابِهَا، وَلَا أَنْ يُعَرِّيَ بَيْتَهَا وَفِرَاشَهَا، وَحِينَئِذٍ يَسْتَمْتِعُ بِهَا.
المسألة الرَّابِعَةُ:
لُبْسُ الْخَزِّ جَائِزٌ، وَهُوَ مَا سَدَاه حَرِيرٌ وَلَيْسَ لُحْمَتُهُ مِنْهُ؛ وَقَدْ لَبِسَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يَرَى الْحَرِيرَ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، وَلِهَذَا أَدْخَلَهُ مَالِكٌ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّإِ، وَقَدْ لَبِسَهُ عُثْمَانُ، وَكَفَى بِهِ حُجَّةً، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحديث.
المسألة الْخَامِسَةُ:
فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِي صَحِيحِ الْحديث عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال لِلَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: «فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمِ».
وَرَوَى حُذَيْفَةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا، وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ.
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ اسْتِعْمَالُهَا فِي شَيْءٍ؛ لِقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ: {هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا}؛ وَالنَّهْيُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهَا، وَسَائِرُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهَا؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمَتَاعِ، فَلَمْ يَجُزْ، أَصْلُهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ؛ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ اسْتِعْجَالُ أَجْرِ الْآخِرَةِ؛ وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الِانْتِفَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ عليه السلام قال: «هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ»؛ فَلَمْ يَجْعَلْ لَنَا فِيهَا حَظًّا فِي الدُّنْيَا.
المسألة السَّادِسَةُ:
إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مُضَبَّبًا بِهِمَا أَوْ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْهُمَا، فَقال مَالِكٌ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُشْرَبَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمِرْآةُ تَكُونُ فِيهَا الْحَلْقَةُ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا وَجْهَهُ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ أَنَسٍ إنَاءٌ مُضَبَّبٌ بِالْفِضَّةِ.
وَقال: {لَقَدْ سَقَيْت فِيهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم}.
قال ابْنُ سِيرِينَ: كَانَتْ فِيهِ حَلْقَةُ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ حَلْقَةَ فِضَّةً، فَقال أَبُو طَلْحَةَ: لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَتَرَكَهُ.
المسألة السَّابِعَةُ:
إذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهَا لَمْ يَجُزْ اقْتِنَاؤُهَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّنَمِ وَالطُّنْبُورِ.
وَفِي كُتُبِ عُلَمَائِنَا إنَّهُ يَلْزَمُ الْغُرْمُ فِي قِيمَتِهَا لِمَنْ كَسَرَهَا؛ وَهُوَ مَعْنَى فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ كَسْرَهَا وَاجِبٌ؛ فَلَا ثَمَنَ لِقِيمَتِهَا؛ وَلَا يَجُوزُ تَقْوِيمُهَا فِي الزَّكَاةِ بِحَالٍ، وَغَيْرُ هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.